بسم الله الرحمن الرحيم
أقصد البحر وخل القنوات
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فأحلَّ وحرَّم، وأباح وحظر. لا يغيب عن بصره وسمعه دبيب النمل في الليل إذا سرى، يعلم السرَّ وأَخفى، ويسمع أنين المضطَّر ويرى، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأَرض ولا في السَّماء، اصطفى آدم ثم تاب عليه وهدى، وابتعث نوحًا فبنى الفلك وسرى، ونَجَّى الخليل من النار فصار حرُّها سرى، ثمَّ ابتلاه بذبحِ ولده فأدهش بصبره الورى، أَحْمده ما قُطِع نهار بسير وليل بسُرى. أحمده حمدًا يدوم ما هبَّت جنوب وصَبَا. وأصلِّي وأُسلِّم على رسول الله محمد، أشرف الخلق عَجمًا وعَربًا، المبعوث في أم القُرى، صلوات الله عليه وسلامه ما تحركت الأَلْسن والشِّفا، وعلى [أبي بكرٍ] الذي أنفق المال وبذل النفس وصاحبه في الدار والغار بلا مِرَا (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) وعلى [عمر] الذي من هيبته ولَّى الشَّيطان وهرب، من أغَصَّ [كسري] [وقيصر] بالرِّيق وما وَنَى، وعلى [عثمان] مجهز جيش العُسْرة زوجُ ابنتيه ما كان حديثًا يفتري، حيَّته الشهادة فقال: مرحبا، وعلى [عليٍّ] أَسد الشرى، ما فُلَّ سيف شجاعته قط ولا نبا، وعلى جميع الأَهل والآل والأصحاب والأتباع ما تعاقب صبح ومساء.
صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه *** والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدا
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أحبتي في الله: إنَّ الإسلام عقيدة استعلاء، تبعث في روح المسلم إحساس العزة من غير كِبْر، ورُوح الثِّقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تَوَاكل، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدةٌ تعلمه كيف يتغلب على شهوات النفس، ومألوفات الحياة في سبيل الله، تُعلمه نِسيان حظوظ النَّفس في سبيل إعلاء دين الله، تُعلمه كيف يستقبل الشدائد في سبيل الله بثغرٍ باسمٍ، ونفسٍ هانِئة مطمئنة، عقيدة تُشعر المؤمن بالتَبِعة المُلقاة على كاهله، تبعة الدعوة للبشرية الضَّالة، لانتشالها من الضَّلالة إلى الهداية، وإخراجها من الظُّلمات إلى النور (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فسبحان من قدَّمنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس، وأنعم علينا بعلو الهمة وقال لنا: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) مَنْ تأمل وتدبر ونظر وجد الأمة قد مرت بها فترات خَيْرِيه، كانت فيها هادية الناس إلى باريها، قائدة رائدة.
كتيبةٌ زيَّنها مَولاها *** لا كَهْلها هُدَّ ولا فَتَاها
وفي العُصور المُتأَخرة: تمرُّ بالأمة فترة عصيبة كادت تفقد فيها هويتها؛ لتصبح تابعةً مسخًا إمَّعة، فإذا المسلم يُجِيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، فيرتَّد بصره خاسئًا وهو حَسِير، يوم يرى جموعًا تسير في دروب متشابكة متعرجة في ليل بهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، ثم لا تصل إلى البحر الذي تريد، تُحدِّد أهدافًا، وتقصد غاياتٍ، ولمَّا تظن أنْها قاربت أهدافها، تُفاجأ بأن الأهداف سراب خادع، ويُطمئنك أنه في وسط تلك الدروب ترى طريقا واحدا مستقيما لا ينحرف يمينا ولا شمالا، تهب عليه الأَعاصير، تكاد معالمه تَنْدثر، فإذا بأقوام يقومون بكشف الرِّمال عنه من جديد، يُوضحون معالمه، ويجددون رسومه، يقلون على هذا الطريق ويكثرون، لكنه لا يكاد يخلو من سائر يُقيضه الله بمَنِّه وكرمه؛ ليرد على الأمة في ذاك الطريق إيمانها بدينها، ويصحح مسارها، ويُعِيد لها ثِقَتها بطريقها، لتفهم رسالتها. من مُصْلحين وأَئِمة يتعاقبون فيها إلى يومنا هذا؛ [كابن عبد الوهاب] -رحمة الله- وغيره ممن يريدون العزيز الوهاب، يُثْبتون أن الأمة كالمطر لا يُدرى أوله خير أم أخره، ولذا صَوَّت حادي المصلحين في ظلام الليل البهيم على ذاك الطريق .
إنَّ هذا العصرَ ليلٌ فأَنِر *** أيُّها المسلمُ ليلَ الحائرين
وسَفِين الحقِ في لُجِّ الهَوى *** لا يُرى غيرُك ربَّان السَّفِين
وتجاوبت بالصَّدى الأرجاء، وأقبل الناس على دين الله من كل حَدْب وصَوب على ذاك الطريق، والحمد لله -رب الأرض والسماء- فما من أرض إلا وقد وصلتها الصحوة المباركة، رغم الكبت والتضليل والحصار، فالهُتاف يملأ الأنحاء، ويشق عنان السَّماء، أنَّا لا نريد غير الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجًا، وهاتف الكل: أن الله غايتنا، فنحن لا نبتغي جاهًا وسلطانًا، وإنما نبتغي للنَّاس قاطبةً خيرٌ ومنفعةٌ دومًا وإحسانًا، هُتاف يستحث كل مسلم غيور، أو مُتَبلدٍ يُذَكِّره بأن مسئوليته ضخمةٌ، وأنه يملك بصيرةً تجعله جديرًا أن يكون له نصيب من التوجيه والتربية والحُداء للركب السائر على ذاك الطريق. هُتافٌ يصرخ: الزَّمن يُسرع، ولا انتظار لبطيءٍ أو متثاقلٍ أو قاعدٍ، ومَنْ يَنْفر مع بزوغ الفجر فسيسبق من توقظه الشمس؛ لأن الطريق سيزدحم.
وبدأت الصحوة تُؤتي ثِمَارها والحمد لله –رب العالمين- لكنه نظرًا للفتور والتقاعس والتباطؤ في التوجيه والتربية، والقيام بالمسؤولية وغيرها من العوامل تجاه هذه الجموع، ظهر في الأُفُقِ سَحَاب تخاذلٍ وضَعف، أو غُلُوٍ وتنطع على نفس الطريق، وبعبارةٍ أدق:
ظهر تعلق بالأطراف والشواطئ والقنوات، وهُجِرت لُجة البحر والعمق والخِضَم، فإذا أنت ترى من تعلق بطرف أعلى يكاد يسقط فتُدق عنقه، وما هو أعز من عنقه، جاوز الحد هلك ثم هلك. وآخَرُ في الطرف الأدنى يحتضر لا يكاد يعرف هويته، يحمل اسم الإسلام ويجهل كُنْهه، قد ربط الوهم أقدامه المسرعة، وطوى أشرعته المبسوطة، وثُقِلت به أجنحته المُرفرفة، يَنْدب حظه وكفي. وآخَرُ راكب متجه نحو هدفه، فلمَّا رأى السَّراب أراق ماءه؛ ظنًا منه أنه بلغ هدفه، فلما جاءه لم يجده شيئًا، ثم ندم حيث لم ينفعه الندم. وآَخرُ اتَّخذ الوسائل غاياتٍ؛ فبقى في القنوات وهجر لُجَّة البحر. وآخر اكتفى بالكلام، وركل العطاء والعمل. وآخر هجر الكيف واهتم بالكم، عمل غير النَّافع، وترك النافع، عمل غير المُهم، وترك المهم والأهم، ما حاله إلا كمن صنع ساقية ، لكنِّها لا تسقى الزرع، بل تأخذ الماء من النهر فترده في النهر، تَعَجَّب النَّاس من فعله الأحمق، قالوا: ما هذا السَّفه؟ تعمل ولا نتيجة لعملك، تأخذ الماء من النهر وتعيده إلى النهر؟! قال: يكفيني من السَّاقية نَعِيْرُها. يكفيه صوتها. وآخر رضيَ بالزرع، واتبع أذناب البقر، وترك الجهاد، وَرَهَقَه الذُّل، ومع ذلك لم يَجْنِ من الزرع الثمر، ولم يأخذ من البقر اللبن، بل بقيَ عالة يتكفَّف، ويسأل، ويُنشد مع ذلك:
أَرى ماءً وبي عطشٌ شديد *** ولكنْ لا سبيلَ إلى الوُرودِ
وآخر اتَّضح طريقه، وحُددت غايته، وهُيأت وسيلته، وأصابه في وسط الطريق همٌ دوَّخه، غبشٌ جاءه في وسط الطريق استولى عليه، فهو أحوج ما يكون لحادٍ يحدوه إلى البحر، لهذا كله كان لِزامًا على كل مسلم يملك أدنى صوت للتوجيه أن يرفع الأذان ليخرق الآذان، علَّه يصل إلى الجنان، ليرد ذلك المتجاوز، ويُحيي ويوقظ ذاك الرِّمة الغافل، ويُطلق الأقدام، ويبسط الأشرعة، ومعه تُرفرف الأجنحة ليُهتم بالنافع الأهم، ويهجر الكم. من هذا المنطلق كانت هذه الكلمات بعنوان اقُصد البحر وخلِ القنوات اقُصد البحر وخلِ القنوات.
هي دعوة للعمل بشرع الله وله، من غير ما زيادة ولا نقصان، مع هجرٍ لقنوات التَّفلت والتَّميع والتَّجاوز، بل وسطية اتزان. أوجهها لنفسي أولا، وللمسلمين ثانيًا؛ علَّها تُحرك القلوب إلى علام الغيوب، وتحدو النفوس للعمل لما يرضي الملك القدوس، هي مع ذلك صرخةٌ وحدا. صرخة تهتف: أن اغلق باب الدعة والسكون والراحة، وافتح على المصراعين باب العمل بهمة وطُموح في اتزان وبصيرةٍ، وانْزِل السَّاحة، والأهم فالأهم تكن الراحة. أن اغلق باب الكرى، وافتح باب النَّصب والعمل، رقيًا مشروعًا مع أولي النُّهى، أَمِط عن رأسك قناع الغافلين، ولا تتجاوز الحد في المشروع تكن مع الهالكين، سِر بخُطى ثابتة في الميدان، ولا تَغربَنَّ عليك الشمس وأنت لازلت في تواكل أو توان. سَدِّد وقارب، فما النَّاس وأنا وأنت منهم إلا كإبل مائة هُزَال مترنحة مسترخية، ولا تكاد تجد فيها راحلة.
يثْقلون الأرضَ من كثرتهم *** ثمَّ لا يُغْنون في أمرٍ جَلل
ومُختار القليل أقل منه! غريب يا أيُّها الأحبة، غريب
أتُختار الحياض وماؤها غُثاء *** وبحر الدين تصفو مناهله؟
فِرَّ في اعتدال إلى الله، واصبر على اللأواء والموعد الله.
لا لؤلؤ البحرِ ولا أصدافه *** إلا وراء الهَوْل مِنْ عُبابه
وهي كذلك؛ أعني هذه الكلمات. حُداء سريع لجميع الأطراف، أطوِّف فيه تطوافًا حثيثًا كأشواط الرّمْل في طواف القدوم أُرَدد فيها: